إن للصدقه تأثيرًا عجيب على القلب والروح والبدن، فهى تخلص القلب من خصلة الشح وحب المال والإمساك به, وتقرب الروح من ربها عز وجل فهو المحبوب الأول الذى يتقرب إليه الإنسان بكل ما يملك, وتأثيرها على البدن ظاهرٌ لكل ذي لُبٍّ؛ فتجدُ البخيل الشحيح يخرج من عند طبيب إلى آخر، وتجد المتصدق بدنه -بقدرة الله- خالصًا من الأسقام والأمراض.
والصدقة لها من الفوائد والآثار غير ذلك، منها:
أنّهَا تُكَفِّرُ الخَطِيئَةَ
عن حذيفة بن اليمان قال: قال عمر بن الخطاب ا: «أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِتْنَةِ قُلْتُ أَنَا كَمَا قَالَهُ قَالَ إِنَّكَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا لَجَرِيءٌ قُلْتُ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ....» (1).
تَزِيدُ الحَسَنَاتِ
قال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة 261].
وعن حكيم بن حزام ا قال: قلت يا رسول الله أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ»(2).
الخُلْفُ فِي المَالِ
قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل 5].
وعن أبى هريرة ا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»(3).
وقد قيل: إن دعاء الملك بالخلف فى المال أعم من أن يكون لأموال الدنيا أو لأموال الآخرة فحسب.
نَمَاؤُهَا عِنْدَ اللَّهِ
قال تعالى: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}[البقرة 276].
قال ابن كثير قرئ بضم الياء والتخفيف من ربا الشيء يربو وارباه يربيه أى كثَّره ونمَّاه بيمينه, وقُرئ يربى بالضم والتشديد من التربيه, قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ»(4).
دُعَاءُ الإِمَامِ لَهُ وَالنَّاس
قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[التوبة 103].
وعن عبد الله بن أبى أوفى قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم «إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى»(5).
والصلاة على أبى أوفى كان بطلب الرحمة والمغفرة له, وكذا صلاة الملائكة لبنى آدم الدعاء لهم.
دُخُولُ الجَنَّةِ
عن أبى أيوب ا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلمأَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ»(6).
وعن أبى هريرة ا أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلمفَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ قَالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا»(7).
آدَابُ مُعْطِي الصَّدَقَةِ
إن لكل عبادة فى ديننا آدابًا يجب أن تتوفر فيها؛ لكى تؤتى ثمارها المرجوة من ثواب الله, وأعظم هذه الآداب الإخلاص, بل إن شئت فقل: لا يُقبل العمل بدونه, فهو أحد شرطى قبول العمل، فبدونه يكون العمل هباءً منثورًا, قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة5], والمتصدق إذا كانت نيته صالحة قُبلت صدقته، وإذا كانت تشوبها الرياء ردت عليه فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجه وما كان لوجه الناس جيء يوم القيامة؛ ليأخذ جزاءه من الناس وهيهات أن يوفوه وإن وفوه فما يغنى عنه من عذاب الله شيء.
عن عمر بن الخطاب ا قال: قال صلى الله عليه وسلم «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»(
.
عن أبى هريرة ا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قَالَ رَجُلٌ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ غَنِيٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ وَعَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّه»(9).
أَنْ لاَ تُتْبَعَ بِالمَنِّ وَالأَذَى
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى}[البقرة 264].
قال القرطبى: المن غالبًا يقع من البخيل والمعجب، فالبخيل تعظم فى نفسه وإن كانت حقيرة فى نفسها والمعجب يحمله العجب على النظر لنفسه بعين العظمة، وأنه منع بحاله على المعطى وإن كان أفضل منه فى نفس الأمر وموجب ذلك كله الجهل ونسيان نعمة الله فيما أنعم به ولو نظر مصيره بعلم أن المنة للآخذ لما يترتب له من الفوائد.
وقال تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى}[البقرة 263].
أخبر الله تعالى أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والاذى فما يبقى ثواب الصدقة بخطيئة المن والاذى, قال صلى الله عليه وسلم«ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ»(10).
وعن أبى الدرداء قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ وَلَا عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ»(11) وهذا المنان مثل المرائى الذى يظهر للناس أنه يريد وجه الله وإنما قصد مدح الناس له وشهرته بالصفات الجميلة؛ ليشكر بين الناس أو يقال: إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه وهو لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولهذا ضرب الله أروع مثال حيث قال: إنه بعمله هذا كمثل صخرة ملساء عليها تراب فأصابها مطر نازل عليها من السماء فمحا هذا التراب وتركها ملساء كما كانت فكذا المرائى والمنان يمحو الله عنهما ثواب أعمالهما يوم القيامة وينزع بركته منه.
أَنْ تَكُونَ مِنْ مَالٍ طَيِّبٍ
قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}[البقرة 276], وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا»(12), قال الإمام البخارى: لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا يقبل إلا من كسب طيب, وقال القرطبى: إنما لا يقبل الله الصدقة بالحرام؛ لأنه غير مملوك للمتصدق –أي مال– وهو ممنوع من التصرف فيه والمتصدق به متصرف فيه قُبل منه –أى الله– لزم أن يكون الشيء مأمورًا منهيًا من وجه واحد وهو محال.
الإِسْرَاعُ فِي إِخْرَاجِهَا
قال الله تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}[المنافقون 10].
قال صلى الله عليه وسلم: «تَصَدَّقُوا فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا يَقُولُ الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالْأَمْسِ لَقَبِلْتُهَا فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا»(13).
وعن عقبة بن الحارث ا قال: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلمالْعَصْرَ فَأَسْرَعَ ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ فَقُلْتُ أَوْ قِيلَ لَهُ فَقَالَ: «كُنْتُ خَلَّفْتُ فِي الْبَيْتِ تِبْرً(14) مِنْ الصَّدَقَةِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ»(15).
قال ابن بطال: إن الخير ينبغى أن يبادر به فإن الآفات تعرض والموانع تمنع والموت لا يؤمن والتسويف غير محمود, زاد غيره وهو أخلص للذمة وأنقى للحاجة وأبعد من المطل المذموم وأرضى للرب وأمحى للذنب.
وقال الإمام أحمد: التسويف له آفات.
التَّصَدُّقُ وَلَوْ بِالقَلِيلِ
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ}[التوبة79]، وقال صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»(16).
وعن أبى هريرة ا قال: " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ»(17).
أَنْ تَكُونَ سِرًّا
قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً} [البقرة 274].
والآية ظاهرة فى تفضيل صدقة السر ولكن ذهب الجمهور إلى أنها نزلت فى صدقة التطوع, ونقل الطبرى وغيره الإجماع على أن الإعلان فى صدقة الفرض أفضل من الإخفاء؛ والإسرار فى صدقة التطوع أفضل من الإعلان.
فعن أبى هريرة ا قال: قال صلى الله عليه وسلم: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»(18).
وقال تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[البقرة 271].
الأَيْدِي فِي الصَّدَقَاتِ
إن الأيدى التي تتصل بالصدقة على خمسة أصناف, المنفقة وهى العليا, والمتعففة عن الأخذ, والآخذة بغير سؤال, والسائلة, والمانعة.
المنْفِقَةُ وَهِيَ العُلْيَا
قال صلى الله عليه وسلم: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ»(19).
المتَعَفِّفَةُ عَنِ الأَخْذِ
قال تعالى: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[البقرة 273].
وعن حكيم بن حزام ا قال: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى قَالَ حَكِيمٌ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ»(20).
وعن أبي هريرة ا قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَالْأَكْلَةُ وَالْأَكْلَتَانِ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَا يَفْطِنُونَ بِهِ فَيُعْطُونَهُ»(21).
الآخِذَةُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ
وعن عمر ا قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ: «خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ»(22).
وقال اختلفوا فى قوله (فخذه) بعد إجماعهم على أنه أمر ندب فقيل هو ندب لكل من أعطى عطية أبى قبولها كائنًا من كان؛ وهذا هو الراجح يعنى بالشرطين المتقدمين، وقيل: هو مخصوص بالسلطان ويؤيده حديث سمرة فى السنن (إلا أن يسأل ذا سلطان) وكان بعضهم يقول: يحرم قبول العطية من السلطان وبعضهم يقول يكره وهو محمول على ما إذا كانت العطية من السلطان الجائر والكراهة محمولة على الورع وهو المشهور من تصرف السلف والله أعلم.
والتحقيق فى المسألة أن من علم كون ماله حلالًا فلا ترد عطيته ومن علم كون ماله حرامًا فتحرم عطيته ومن شك فيه فالاحتياط رده وهو الورع ومن أباحه أخذ بالأصل.
السَّائِلَةُ
«سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ .....»(23).
ومعنى الحديث أن يسأل ليجمع الكثير من غير احتياج إليه فهو مذموم أما من سأل وهو مضطر فذلك مباح له فلا يعاقب عليه.
عن عمر بن الخطاب ا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ»(24).
أما السؤال الذى يباح للمسلم فلابد ألا يخرج عن الثلاثة الذين حددهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث قبيصة بن مخارق عن مسلم قال: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ: «أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا قَالَ ثُمَّ قَالَ يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا»(25).
المَانِعَةُ
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}[التوبة 35].
عن الأحنف بن قيس قال: «جَلَسْتُ إِلَى مَلَإٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ»(26).
وأخيرًا.. أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينفع بها كاتبها وقارئها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.